منهاج النبوة في بناء الإنسان

الشيخ محمد العوّامي.

منهاج النبوة في بناء الإنسان: التلاوة والتعليم والتزكية

إن من أعظم ما امتن الله به على البشرية، أن أرسل إليهم خاتم النبيين محمدًا ﷺ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم. وقد جاءت بعثة النبي ﷺ استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين قال:

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 129)

وقد جمعت هذه الآية في سطورها ثلاثَ ركائز لبناء الإنسان والمجتمع وهي:

* تلاوة آيات الله

* تعليم الكتاب والحكمة

* تزكية النفوس

أولًا: التلاوة – {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}

* التلاوة في اللغة تعني القراءة بصوت مرتل، يتبع بعضه بعضًا. أما في الاصطلاح، فتعني قراءة القرآن بتدبر وتفكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (البقرة: 121)

* أي: يتبعونه ويعملون به.

* ولم يكن النبي ﷺ مجرد قارئ للقرآن، بل كان مبلغًا له، ومبينًا لمعانيه بسلوكه وقوله وعمله، كما قالت عائشة رضي الله عنها: „كان خُلُقه القرآن“ (رواه مسلم)

* وقال الإمام الطبري في تفسير جامع البيان في تأويل القرآن: „وقوله: (يتلو عليهم آياته) يقول جل ثناؤه: يقرأ على هؤلاء الأميين آيات الله التي أنزلها عليه (ويزكيهم) يقول: ويطهرهم من دنس الكفر“.

* وكانت تلاوة النبي ﷺ تلامس القلوب، وتوقظ الفطرة، وتكشف الغشاوة عن البصائر، لأن أول ما يسمعه الإنسان من الوحي هو كلام الله، وتلك أولى مراحل الهداية، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} (الأنعام: 104)

ثانيًا: التعليم – {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}

* الكتاب: هو القرآن الكريم، لفظًا ومعنًى.

* الحكمة: هي السنة النبوية، أو الفقه والفهم الصحيح لمعاني الكتاب، كما قال الإمام الشافعي في كتابه الرسالة ص78: „فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكر، وأتبعته الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال: الحكمة ـ ها هنا ـ إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض؛ إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به، فسنة رسول الله ﷺ مبينة عن الله معنى ما أراد دليله على خاصه وعامه، ولم يجعل الله هذا لأحد من خلقه غير رسوله ﷺ“

* إن نزول الوحي لا يحقق أثره الكامل إلا بفهم معانيه، وتطبيق مقاصده. ومن أعظم وظائف النبي ﷺ تعليم الناس معاني القرآن وتفصيل الشريعة، كما قال تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} (النحل: 44)

* يقول الإمام القرطبي في تفسير أحكام القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ … } يعني القرآن: {.. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك; فالرسول ﷺ مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله“.

* ويقول الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: „وإسْنادُ التَّبْيِينِ إلى النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِاعْتِبارِ أنَّهُ المُبَلِّغُ لِلنّاسِ هَذا البَيانَ والأُمَمِ عَلى هَذا الوَجْهِ؛ لِذِكْرِ العِلَّةِ الأصْلِيَّةِ في إنْزالِ القُرْآنِ“.

* وكان تعليم النبي ﷺ شاملًا، لا يقتصر على الجانب العقلي، بل يشمل الروح والأخلاق والسلوك. فكان يعلّم بالقدوة، ويغرس القيم في النفوس، ويصنع جيلًا ربانيًا متوازنًا.

ثالثًا: التزكية – {وَيُزَكِّيهِمْ}

* التزكية في اللغة تعني: التطهير والنماء.

* وقد تطلق التزكية على الصلاح، قال الفيومي رحمه الله: «زكا الرجل يزكو إذا صلح وزكيته -بالتثقيل- نسبته إلى الزكاء وهو الصلاح» [المصباح المنير، الفيومي ١/٢٥٤]

* وفي الاصطلاح: تطهير النفس من أدران الشرك والمعاصي، وتنميتها بالإيمان والطاعات.

* وقد تطلق التزكية: بأنها تعني: تطهير النفس من نزعات الشر والإثم، وتنمية فطرة الخير فيها؛ مما يؤدي إلى استقامتها، وبلوغها درجة الإحسان. [منهج الإسلام في تزكية النفس، د. أحمد كرزون]

* وقد جاءت التزكية بعد التلاوة والتعليم، إشارة إلى أنها نتيجة مترتبة عليهما؛ فمن استمع للقرآن بتدبر، وتعلم معانيه بتأمل، ظهرت آثار ذلك على سلوكه، وتزكت نفسه.

* وفي مواضع أخرى، قدم الله التزكية على التعليم، كما في قوله تعالى:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة: 2)

* ويقول سيد قطب في ظلال القرآن : (ويزكيهم ) . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول ﷺ تطهير للضمير والشعور ، وتطهير للعمل والسلوك ، وتطهير للحياة الزوجية ، وتطهير للحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد ؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح ، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ، ويتعامل مع الملأ الأعلى ؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .

* وكانت تزكية النبي ﷺ للصحابة سببًا في تغيير حياتهم، فانتقلوا من الجاهلية إلى الإيمان، ومن حب الدنيا إلى بذل النفس لله، وأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس. وهذا يؤكد أن التزكية لا تنفصل عن التعليم، بل هي ثمرة له.

✔ ️ إن هذا المنهاج النبوي القائم على التلاوة، والتعليم، والتزكية، ليس مجرّد ترتيب وظيفي، بل هو خطة إلهية متكاملة لبناء الإنسان، تُغذي العقل بالمعرفة، والقلب بالإيمان، والسلوك بالاستقامة.

✔ ️ وهو المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه كل مربٍ وداعية ومصلح في كل زمان ومكان، مستنيرًا بنور النبوة، وسائرًا على طريق الهداية

الشيخ محمد العوّامي
عضو إدارة المجلس الأوروبي للقرآن الكريم
عضو إدارة الهيئة الألمانية للقرآن الكريم

 

 

 

ملاحظة: ما ينشر في الموقع لا يعبّر بالضّرورة عن موقف المجلس