الخشية من الناس في العلاقات الأسرية

الشيخ محمد العوامي:

صحبتُ شيخنا الدكتور عبد السلام بن مقبل المجيدي في رحلة استغرقت بعض الساعات، فاستفدت أثناء الحوار معه في عدة أمور، كما هي عادة صحبة العلماء؛ فهي أشبه ما تكون بالجلوس إلى جوار حامل المسك.

كان من ضمن حديثنا موضوع الخشية من الناس، وقد أشار فضيلته إلى سبب نزول الآية الكريمة، فأردت أن أترجم هذا الحوار إلى مقال، ضمن سلسلة المقالات التي أنشرها حول التدبر القرآني وأثره في التربية.

دروس من قوله تعالى:

{وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37]

الخشية شعور قلبي عميق، يُعبّر عن وعي القلب بعظمة من يُخشى. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن لتصف مشاعر الأنبياء، والمصلحين، والعلماء، والناس جميعًا.

لكن الموضع الأبرز الذي يقف عنده القارئ بتأمل وذهول، هو قوله تعالى في سياق قصة زواج النبي ﷺ من أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:

{وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}

إنه موضع يربّي القلوب على ميزان دقيق، وهو: تقديم خشية الله على كل اعتبار اجتماعي أو عائلي.

فمهما بلغت الضغوط المجتمعية، أو تعقيدات العلاقات الأسرية، فإن القلب المربوط بالله لا يقدّم على أمر الله شيئًا.

بهذا الميزان تتربى النفوس، وتتزكى القلوب، وتستقيم الحياة على هدي الوحي.

أولًا: الخشية في اللغة والقرآن:

* قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28].

* عرفهما الراغب رحمه الله بقوله: „الخشية فقال عنها: „الخَشْيَة: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]“ [المفردات (283).]

* قال الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: „الأظهر عندي أن { كذلك } ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى: كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله: { إنما يخشى الله من عباده } أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } مستأنفة عن جملة { كذلك } . وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون . وهذا مثل قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ]“ .

* ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين (1/ 508): عن معنى الخشية: „والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فهي خوف مقرون بمعرفة“.

* وقيل: „الخشية تألم في النفس يحصل من توقع مكروه يحصل من عظيم… ولهذا كانت الخشية أخص بأهل الفضل، أما الخوف فيعمّ“.

* فخشية الله لا تكون عن جهل، بل عن علم وبصيرة، ولهذا أمر الله نبيه أن لا يقدّم خشية الناس، مهما كانت النوايا.

* „تقدير الله يورث طمأنينة، وتقدير الناس قد يورث ترددًا“

ثانيًا: السياق النبوي: خشية نابعة من مراعاة الناس:

* في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } [الأحزاب: 37].

* تدور القصة حول زيد بن حارثة، الذي كان يُدعى ابن محمد، وزواجه من زينب، ثم طلاقها، ثم أمر الله نبيه بالزواج منها، ليبطل عادة التبني.

* قال القرطبي: „قال المفسرون: إن هذه الآية نزلت بسبب أن الله أمر نبيه أن يزوج زينب بعد طلاقها من زيد، فكره ذلك النبي، وخشي أن يقول الناس: تزوج امرأة ابنه…“[القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص190-191.].

* وفسر سيد قطب „في ظلال القرآن“ المشهد بقوله: „إنها لمسة وجدانية دقيقة في لحظة إنسانية حساسة… كان النبي يود لو تمّ هذا الأمر في هدوء… لكن الله أراد أن يشرع التشريع بوضوح، وأن يواجه الناس بالأمر في العلن.“

ثالثًا: تقويم إلهي لطيف: تقديم خشية الله على المجتمع:

يُظهر هذا المقطع النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم، كانت تراوده مشاعر بشرية من مراعاة المجتمع وتفسيراته، لكن الأمر الرباني كان واضحًا: {والله أحق أن تخشاه}.

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: ج22، ص83-85.:

„التوبيخ هنا ليس عن معصية، بل ترك أولى… وتقديم خشية الناس هو اجتهاد ناتج عن مصلحة دعوية، فجاء التصحيح الإلهي ليضبط موازين التبليغ الصريح“.

رابعًا: لماذا „تخشى“ وليست „تخاف“؟

القرآن دقيق في لفظه، وقد اختار هنا „تخشى“ للدلالة على تأمل المآلات، لا مجرد الخوف من الأذى. فالخشية تدل على توقع سوء الفهم أو الإحراج الاجتماعي.

وقيل: „ليست خشية عن ضعف أو تقصير، بل عن رغبة في أن يتم أمر الله بلا إثارة ولا قالة. لكنها لحظة إنسانية، عالجها القرآن بحسم، ليبقى مبدأ التبليغ أعلى من أي اعتبارات“.

خامسًا: دروس تربوية من الآية

* بيان بشرية النبي ﷺ وأنه رغم كماله، تعرّض للحظات مراعاة إنسانية لمشاعر الناس.

* التأديب الإلهي العظيم، الذي وجّه نبيّه ﷺ بلطف إلى ما هو أولى.

* ترسيخ قاعدة اجتماعية وتشريعية: لا حرج في زواج أزواج الأدعياء بعد طلاقهن.

* إبطال الحرج الاجتماعي، وإن كان له جذور عميقة في المجتمع الجاهلي.

* إذا خُيّرت بين نظرة الناس أمر الله، فاختر ما أمر الله.

هذه الآية تزرع في قلب المؤمن مبدأ لا يتزحزح:

„أن خشية الله تعلو كل خجل، وتقدير الله أعظم من تقدير الناس“.

* فإن أردت تقف موقفًا للحق، ثم منعتك نظرة المجتمع، فتأمل قوله تعالى:

{والله أحق أن تخشاه}.